كان ممر المساعدات البحرية بين قبرص وغزة بمثابة حيلة دعائية ضارة | الأزمات الإنسانية

منذ هجمات حماس على جنوب إسرائيل في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 وبدء الهجوم العسكري الإسرائيلي الأخير على غزة، ظلت الدعوات لتوصيل المساعدات الإنسانية دون عوائق إلى الفلسطينيين في القطاع المحاصر دون استجابة بشكل مأساوي.
وعلى مدى الأشهر الأربعة عشر الماضية، قُتل أكثر من 45 ألف فلسطيني ـ ثلثاهم من النساء والأطفال ـ وأصيب عدد أكبر بكثير بجروح خطيرة، وتحولت معظم البنية التحتية المدنية في غزة إلى أنقاض. إن الوضع على الأرض اليوم لا يقل عن كونه مروعا.
ومع استمرار العنف دون نهاية في الأفق، زادت الحاجة إلى المساعدات الإنسانية في غزة بشكل كبير. ولا تهدد القنابل والرصاص فقط حياة السكان، بل أيضاً النقص المزمن في الغذاء والمياه النظيفة والرعاية الصحية الأساسية.
“يواجه الناس في غزة مستويات كارثية من الجوع. المجاعة تلوح في الأفق. هذا أمر لا يطاق. وقال الأمين العام للأمم المتحدة، أنتونيا غوتيريش، في 17 أكتوبر/تشرين الأول، إن نقاط العبور يجب أن تفتح على الفور، ويجب إزالة العوائق البيروقراطية.
ولم يكن هذا هو الطلب الأول ولا الوحيد المقدم من إسرائيل للوفاء بالتزاماتها بموجب القانون الدولي وضمان حصول الفلسطينيين في غزة على المساعدات الكافية وسط عدوان عسكري لا هوادة فيه.
وفي يناير/كانون الثاني، أمرت محكمة العدل الدولية إسرائيل “باتخاذ تدابير فورية وفعالة لتمكينها من توفير الخدمات الأساسية والمساعدات الإنسانية التي تشتد الحاجة إليها لمعالجة الظروف المعيشية المعاكسة التي يواجهها الفلسطينيون في قطاع غزة”.
وحتى الآن، رفضت إسرائيل الاستجابة لهذه الدعوات وحافظت على قيود صارمة على تدفق المساعدات إلى القطاع المحاصر.
ومع عجزها عن إجبار إسرائيل على إعلان وقف إطلاق النار أو فتح الحدود أمام المساعدات، وفي مواجهة ضغوط داخلية متزايدة لتخفيف معاناة السكان الفلسطينيين، شرعت العديد من الحكومات في المنطقة وفي جميع أنحاء الغرب في عمليات رمزية في كثير من الأحيان لتوصيل المساعدات، لكنها للأسف فشلت في تحقيق ذلك. اختلاف كبير عن الوضع على الأرض.
على سبيل المثال، قدمت حزم المساعدات التي أسقطتها الأردن وفرنسا جواً إغاثة مؤقتة لعدد محدود من الأشخاص، الذين كانوا محظوظين بما يكفي لوضع أيديهم عليها، لكنها لم تفعل شيئاً لتخفيف معاناة الجماهير على المدى الطويل.
وفي العديد من الحالات، لم تكن هذه المبادرات تؤدي إلا إلى توفير رأس المال السياسي للحكومات المسؤولة، مما سمح لها بالظهور بمظهر المشاركين مع تجنب القرارات والإجراءات الصعبة اللازمة لإحداث تغيير حقيقي.
وكان أبرز مثال على مبادرات المساعدات الرمزية هذه وأكثرها تكلفة وإجمالاً هو الجهود التي قادتها الولايات المتحدة لإنشاء ممر بحري مؤقت بين قبرص وغزة لتوصيل المساعدات. في البداية، تم الترحيب بالمشروع باعتباره شريان حياة إنساني حيوي من شأنه أن يسمح لإيصال المساعدات بتجاوز الطرق البرية المتنازع عليها بشدة والوصول بسرعة إلى السكان المستهدفين، وقد أثبت أنه محفوف بأوجه القصور والتعقيدات.
تهدف المبادرة، المعروفة باسم النظام اللوجستي المشترك عبر الشاطئ، إلى نقل المساعدات من قبرص إلى غزة عبر سلسلة من السفن ومنصة عائمة ورصيف مؤقت مثبت على الشاطئ.
وبحسب ما ورد، تم اقتراح فكرة ممر المساعدات البحرية لأول مرة على الرئيس الأمريكي جو بايدن والرئيس القبرصي نيكوس كريستودوليدس من قبل رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو خلال الأسابيع القليلة الأولى من الهجوم الإسرائيلي الشامل على غزة. ووفقا لوكالة رويترز للأنباء، تعتقد إسرائيل أن هذه ستكون “خطوة مهمة” نحو فك الارتباط اقتصاديا عن القطاع. وبعد أشهر من الجدل السياسي، أصبح الممر جاهزاً للعمل في شهر مايو/أيار، أي بعد ما يقرب من سبعة أشهر من بداية الصراع.
وقد حظي إطلاق عملية المساعدات بضجة كبيرة في جميع أنحاء العالم، وقد أشادت بها الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون على حد سواء باعتبارها خطوة مهمة لمنع المجاعة في القطاع المحاصر. وكانت تكلفة المشروع كبيرة أيضا. وخصصت الحكومة الأمريكية نحو 230 مليون دولار للعملية، ونشرت 1000 جندي وبحار أمريكي إلى جانب 16 سفينة. ومن المعروف أيضًا أن حكومة المملكة المتحدة ساهمت في المهمة.
وعلى الرغم من إطلاقه البارز والتكلفة الباهظة، إلا أن التأثير الإنساني للممر البحري كان محدودًا للغاية. وبسبب مشكلات مختلفة، عمل الممر بفعالية لمدة 20 يومًا فقط قبل أن يتم التخلي عنه رسميًا.
ووفقاً لتقرير صادر عن مكتب المفتش العام التابع للوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، من المتوقع أن تقدم الولايات المتحدة مساعدات كافية لإطعام 500 ألف شخص لمدة 90 يوماً. ومع ذلك، في النهاية، تم تسليم حوالي 8,100 طن متري فقط من المساعدات – أي ما يعادل ما يعادل يوم واحد فقط من شحنات المساعدات قبل الحرب بالشاحنات – عبر الممر خلال نافذة العمليات القصيرة.
بالإضافة إلى ذلك، فإن معظم المساعدات التي تمكنت من الوصول إلى غزة عبر هذا الطريق لم تصل إلى المستفيدين المقصودين.
وكان أحد الأهداف الرئيسية للمبادرة هو تقديم المساعدات إلى شمال غزة، حيث كان مئات الآلاف من المدنيين يحاولون البقاء على قيد الحياة في ظل حصار شبه كامل وقصف متواصل دون أن يتمكنوا من الحصول على الغذاء.
وتحقيقًا لهذه الغاية، اقترحت المنظمات الإنسانية العاملة على الأرض إنشاء رصيف مؤقت لإيصال المساعدات في الشمال. ومع ذلك، طالب الجيش الإسرائيلي بأن يكون موقعها على شاطئ وسط غزة. وافقت الولايات المتحدة، وأظهرت بوضوح أن أولويتها في هذه العملية لم تكن تقديم المساعدات الإنسانية بكفاءة، بل الاستجابة لمخاوف إسرائيل العسكرية ومطالبها الاستراتيجية.
وعند وصول المساعدات إلى وسط غزة، كان عليها أن تقطع مسافة طويلة للوصول إلى الجماهير المحتاجة في الشمال. وقد تسبب ذلك في حدوث مشكلات لوجستية وتشغيلية كبيرة حيث قامت الحشود الجائعة بتحويل مسار الشاحنات المحملة بالإمدادات ونهب البضائع كلما استطاعت ذلك.
وفي الوقت نفسه، أدى سوء الأحوال الجوية إلى إتلاف الرصيف بشكل متكرر، مما جعله في النهاية غير صالح للاستخدام بشكل دائم.
تشير كل هذه القضايا إلى أن الغرض الحقيقي من هذه المبادرة لم يكن إطعام الفلسطينيين الجائعين، بل تخفيف الضغط الدبلوماسي المتزايد على إسرائيل لاتباع القانون الدولي وفتح الطرق البرية لتوصيل المساعدات. كان المشروع بأكمله مجرد حيلة دعائية أكثر من كونه جهدًا جادًا لضمان بقاء السكان المحاصرين.
في النهاية، لم تكن تكلفة الممر البحري مالية فقط. هذه الحيلة، التي تضع مصالح إسرائيل في كل خطوة فوق احتياجات الفلسطينيين، كانت لها أيضًا تكلفة إنسانية باهظة لأنها ساهمت في تسييس المساعدات وساعدت إسرائيل على تقويض القانون الإنساني الدولي دون عقاب، والذي يحظر بوضوح منع المساعدات عن السكان المدنيين. .
ولم يُمنح الجيش الإسرائيلي فقط، وهو السبب الرئيسي وراء احتياج الفلسطينيين في المقام الأول، رأياً في كيفية ومكان تسليم هذه المساعدات، بل سُمح له أيضاً بتفتيش حزم المساعدات في قبرص قبل أن يبدأوا رحلتهم. إلى غزة. كل هذا أثار تساؤلات جدية حول حياد البعثة. علاوة على ذلك، فقد خلق الانطباع بأن بعض الجهات الفاعلة يمكن أن تتجاهل القانون الدولي الإنساني، أو الأسوأ من ذلك، أن تحاول استخدامه لتحقيق أهدافها السياسية والعسكرية.
لا تزال الأزمة الإنسانية في غزة تتصاعد مع نزوح 95 بالمائة من السكان وتدمير ما يقرب من 80 بالمائة من البنية التحتية المدنية. ومع ارتفاع عدد القتلى وتفاقم المعاناة، يجب على المجتمع الدولي التركيز على تقديم مساعدات أكثر فعالية وحيادية سياسيًا بما يتوافق مع القانون الدولي الإنساني.
ولمنع التآكل الكامل للثقة في المساعدات الإنسانية، فمن الأهمية بمكان أن يؤكد المجتمع الدولي – والمنظمات الإنسانية نفسها – على التزامهم بمبادئ الحياد وعدم التحيز والاستقلال عند تقديم المساعدات التي تشتد الحاجة إليها إلى غزة.
ويتعين على الوكالات الإنسانية أن تتخذ موقفاً حازماً ضد أي شكل من أشكال التلاعب بالمساعدات وأن توضح أنها لن يتم اختيارها في الاستراتيجيات السياسية أو العسكرية.
إن المجتمع الدولي، الذي يتحمل مسؤولية دعم القانون الإنساني الدولي لضمان حصول جميع المدنيين المحتاجين على المساعدات دون عوائق، يتحمل أيضًا مسؤولية حماية العاملين في المجال الإنساني.
وقتلت إسرائيل 161 من العاملين في مجال الإغاثة الإنسانية في غزة في الأشهر الثلاثة الأخيرة من عام 2023 وحده، وسقط كثيرون آخرون منذ ذلك الحين ضحايا لهذا الصراع. ويتعين على المجتمع الدولي أن يحاسب كافة الأطراف ــ سواء كانت إسرائيلية أو فلسطينية ــ التي تلحق الضرر بعمال الإغاثة.
إن فشل الممر البحري بين قبرص وغزة وغيره من المبادرات الرمزية المماثلة في غزة لا يضر فقط بالفلسطينيين الذين تركوا دون مساعدات. كما أنها تلحق الضرر بالجميع، في كل مكان يتأثر بالصراع، لأنها تقوض أسس العمل الإنساني والقانون الإنساني.
إن سكان غزة، مثلهم مثل كل المتضررين من الصراع في كل مكان في العالم، يستحقون أكثر من مجرد لفتات رمزية. إنهم يستحقون تدفقًا محايدًا وفعالًا ودون عوائق للمساعدة للتخفيف من معاناتهم.
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء المؤلف ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.
اكتشاف المزيد من موقع علم
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.